لنضرب أمثلة، فهذا أفضل من التنظير :
المثال الأول:
بإمكان العنف أن يدمر السلطة، لكنه بالضرورة عاجز عن خلقها
أداب يونيو2008
كما ترى ، تتكون القولة من عبارتين، يجمعها رابط منطقي هو أداة الاستدراك”لكن”
يستعمل الاستدراك لنفي ما سبق أو الحد من قيمته أو صدقيته أو صلاحيته مقابل التأكيد على ما سيأتي.
ما الذي سبق؟ ما سبق قوله أن بإمكان العنف أن يدمر السلطة، أي أن يلغي سلطة قائمة. لاحظ هنا صيغة الإمكان، يعني من المحتمل، في بعض الحالات. والإمكان هو ما يتساوى وقوعه وعدم وقوعه
نعلم أن ما يأتي بعد الاستدراك، يكون أقوى في السلم الحجاجي وأقرب إلى اعتقاد المتكلم
ماذا أتى بعد الاستدراك؟ أتى “أن العنف عاجز بالضرورة عن خلق سلطة غير موجودة بعد”، لاحظ صيغة الضرورة في الشق الثاني مقابل صيغة الإمكان. والضروري هو مالا يمكن تصور عدم وقوعه !
ماهي أطروحة القولة؟ يسلم صاحب القولة بحكم على سبيل الإمكان وهو قدرة العنف على تدمير سلطة قائمة، لكنه يستدرك ليثبت حكما ضروريا وهو أن العنف عاجز عن خلق وتأسيس سلطة غير موجودة بعد
ومنه نستنتج أن وظيفة العنف وظيفة سلبية وليست وظيفة إيجابية، وظيفة إلغاء وإعدام لا وظيفة خلق وإيجاد..
والآن لماذا لا يتمتع العنف سوى بوظيفة سلبية؟ علي هنا أن أبني الحجاج المفترض الداعم لهذه الفكرة/الأطروحة قبل مناقشتها لاحقا
تمرين:
تأمل في البنية المنطقية للقولة التالية مستفيدا مما رأيناه قبل قليل:
“إن اللغة هي ما يجعل من الإنسان إنسانا، غير ان هذا الأخير كان بإمكانه أن يبدع اللغة حتى لو لم يكن إنسانا قبل ذلك”
آداب يونيو2006
المثال الثاني:
الإنسان إرادة حرة، وسلوكه لا يمليه شيء آخر سواه: فالحرية تفترض استقلالية الإرادة
آداب يوليوز 2009
لعلك تلاحظ ان هذه القولة تتكون من ثلاث قضايا أوعبارات
بين الأولى والثانية أداة عطف أو وصل هي الواو وبين هذين والثالثة وأداة تفسير هي حرف الفاء. يمكن أن تكون فاءا “سببية” لكن وظيفة التفسير تؤكده أيضا نقطتا التفسير (:). وتقدير الفاء هنا “ذلك أن..”
يقرر صاحب القولة أولا الإنسان إرادة حرة. لاحظ أنه لم يقل الإنسان هو إرادة حرة. مما يعني أن الإرادة ليست فقط صفة للإنسان، بل هي ماهيته! إذن فهو يطابق بين الإنسان والإرادة. جوهر الإنسان هو الإرادة.
على هذا التقرير عطف صاحب القولة قضية أخرى، وهي أن السلوك الإنساني لا تلميه ولا يصدر سوى عن الإنسان، وحيث أنه سبق أن طابق بين الإنسان والإرادة سنقول إن سلوك الإنسان لا تمليه سوى الإرادة وهذا يذكرنا بقولة بوسييه..إلخ لاحظ كيف أن صاحب القولة ينفي كل المحددات والحتميات لتفسير وقوع السلوك، ويرده إلى الإرادة وحدها…
فسر صاحب القولة هاتين القضيتين بقضية ثالثة تفيد “الحرية تفترض استقلالية الإرادة”، أي استقلالية الإرادة عن المحددات والحتميات سواها. و إذا قلنا (أ) تفترض (ب) معناها أن (ب) شرط (أ)، يستدعي وجود (أ) وجود (ب) أولا. أن التفكير في (أ) يستوجب التفكير في (ب).. إلخ
لاحظ كيف أن مفهومين من مفاهيم القضية الثالثة متضمنة في القضيتين الأولى والثانية: فمفهوم الحرية متضمنة في القضية رقم2، بينما مفهوم الإرادة متضمنة في القضية رقم1
أما المفهوم المركب بالإضافة: استقلالية الإرادة فمتضمن في القضية رفم2
وهذا يؤشر على التماسك المنطقي للقولة إذا ما أردنا مناقشتها وتقييمها.
ماهي أطروحة القولة إذن؟ أطروحتها كامنة في القضية رقم 1 لأن القضية رقم2 معطوفة على رقم1 ورقم ثلاثة تفسير لهما معا !!
أطروحة القولة كامنة في المطابقة بين الإنسان وحرية الإرادة، ماهية الإنسان هي الحرية أو هي إرادته الحرة، وينجم عن ذلك أن سلوكاته لا تمليها سوى إرادته، وتفسير ذلك أن الحرية تفترض كشرط لها استقلالية الإرادة (ربما تعرفت على دلالة هذا المفهوم عند كانط)
تمرين:
حاول الاشتغال على البنية المنطقية للقولة اتلالية مستعينا بما رأينه في المثال2
إن إقامة السلطة هي التي تزيل العنف، بحث تبدو بمثابة قوة لمحو العنف عبر تأسيس الحق”
تأمل في وظيفة “حيث”
المثال الثالث:
ليست النظرية معرفة، بل ما يتيح المعرفة.. إنها ليست حلا لمشكل، بل إمكانية لمعالجته
علوم- يوليوز2009
هنا ينبغي التمعن قليلا! نحن أمام قولة مكونة من شقين لهما نفس البنية المنطقية ” ليست… بل..”. وكل شق منهما مكونة بدوره من عبارتين
نعرف أن “بل” في النحو أداة إضراب. للتوضيح أكثر سنقول إنها إضراب عما سبق أي نفي لما سبق من أجل إثبات ما سيأتي
لنتأمل الشق الأول
ليست النظرية معرفة، بل ما يتيح المعرفة
مالذي تم نفيه؟ أن تكون النظرية معرفة. ومالذي قد يشكل معرفة؟ ما عسى النظرية تكون إن لم تكن معرفة؟ ما المعرفة يا ترى؟
الجواب إنها فقط أداة تتيح إمكانية المعرفة، منهج لتحصيل المعرفة وليست معرفة بحد ذاتها. لعل هذا يذكركم بالتصورات الوضعية مع بيير دوهيم مثلا حيث تقتصر وظيفة النظرية على وصف القوانين التجريبية بواسطة أقل عدد ممكن من المبادئ
بعيارة أخرى، فمادة المعرفة تكمن في التجربة.
نتابع،
في الشق الثاني نقرأ:
.. إنها ليست حلا لمشكل، بل إمكانية لمعالجته
هنا أيضا نفي وإثبات، نفي لكون النظرية حل المشكلات (سواء كانت مشكلات علمية صرفة أو مشكلات تكنلوجية) وإثبات لكونها إمكانية لمعالجة المشكل
ما عساها تكون النظرية إن لم تكن حلا لمشكلات؟ من المحتمل أن صاحب القولة يمنح للتجربة هذا الدور أي القدرة على حل المشكلات، بعد أن تقدم النظرية إمكانية وإطارا للحل. وبالفعل ينضح تاريخ العلم بأمثلة لنظريات ساهمت في دفع التجربة إلى إيجاد الحل الملائم. أشهرها مشكلة عدم ارتفاع الماء في المضخات إلى أكثر من 32 قدما (حوالي 10 متر) زمن غاليلي وتورشلي. فقد ساهمت تجربة أنبوب الزئبق المغمور في حوض زئبق في اكتشاف أصل المشكل الذي هو الضغط الجوي…
ماهي أطروحة القولة إذن؟ إنها نفي ورفض للأطروحة القائلة باحتواء النظريات على معرفة ما، إنها مجرد أداة أو منهج للمعرفة…
أتمنى أعزائي التلاميذ أن تفيدكم هذه الخطوات المنهجية في تحليل القولة لأن جودة التحليل تقاس بمدى توقف التلميذ عند القولة وحفره في معانيها وقدرته على الإنصات لمراميها في أفق استجلاء أطروحتها بأكبر قدر ممكن من الدقة.
والله الموفق