الفوائد الجنية من الهجرة النبوية (8)
ثامنا : المسجدُ والدورُ الحقيقي .
ويواصلُ النبيُ صلى الله عليه وسلمَ سيرَهُ حتى وصلَ إلى المدينةِ ، فبدأ ببناءِ المسجدِ وعمارتِه لِعِلْمِه أنَّ المسجدَ لم يوجدْ في الإسلامِ لأداءِ الصلاةِ فقط ، وإنما هو مدرسةُ المجتمعِ الحقيقيةِ وهو نُقطةُ الانطلاقِ لتبليغِ دينِ الله ، وهو مركَزُ الدولةِ الإسلاميةِ السائرةِ على منهجِ الله .
لقد نشأتْ مكانةُ المسجدِ وترعرعتْ في قلوبِ المسلمينَ مُنْذُ عهدِ النبوةِ ، حيث كانَ مصدرَ النورِ والعلم والبصيرةِ والعزة للإسلامِ والمسلمين ؛ فأعلى سبحانَه شأنَ المساجدِ ورفع قدرها ، ولا أدلَّ على عظيمِ مكانةِ المسجدِ ومعرفةِ المسلمينَ الأوائلَ أنْ لا طريقَ لإعلاءِ دينِهمُ الذي هو مصدرُ عِزِّهِم ، إلا بالانطلاقِ منه ، ولذلكَ فإنَّ أولَ ما بَدأ به النبيُ صلى الله عليه وسلمَ عندما حلَّ بأرضِ الهجرةِ النبويةِ هو بِناءُ المسجدِ لِجَعْلِه مصدرًا للدعوةِ ومنبعًا لها وموردًا للصحابةِ رضي الله عنهم للجلوسِ معه عليه الصلاةُ والسلام ، وعندما رسخَتْ هذه المعاني في قلوبِهم رضي الله عنهم ساروا عليها بكُلِّ ما أُوتُوا من عزْمٍ ويقينٍ بعد وفاته عليه الصلاةُ والسلام ، ثم سارَ المسلمونَ من بعدهم في هذا المسير ، وانطلقوا من هذا المنطلقِ ، ومن ذلك المكانِ الطاهر الشريفِ فإن الإمامَ عليه مسئوليةٌ وتَبِعَات ، ومؤذِنُ المسجدِ والمصلونَ كذلك ، كُلٌ له دورُه الذي يُعْتَبَرُ لَبِنَةً لِبِنَاءِ هذه الرسالة ، وبَعْثِها لأرجاءِ المعمورة .
أرأيتم لو قامَ كُلٌ بدوره المأمولِ منه وإحيائِه واستحضارِه … أيبقى دورٌ في أرجاءِ الأرضِ وقوةٌ على ظهرها لغيرِ الإسلامِ ودعوته ؟ ولا أدلَّ على عِنَايةِ الإسلامِ بالمسجدِ وقداسَتِه من أمْرِ الشارعِ بعدم زخرفتِه ، ونَشْدِ الضالةِ ورفعِ الصوتِ ، كُلُ ذلك لِتَتَوَحَّدَ القلوبُ وتبتهلَ إلى خالِقها وإلهِها بدونِ صوارفَ وشواغلَ تُعيقُ تَهَيؤَها للقيامِ بدورها تجاهَ المسجدِ ورسالته ، فأين أغنياءُ المسلمينَ عن هذه الحقيقةِ ، وأينَ العلماءُ والمسئولونَ عن هذا الأمرِ المهمِ في حياةِ المجتمعات ، لماذا أصبحتِ المساجدُ مهملةً ، وإذا اعتُنِيَ بها فمِن أَجْلِ الصلواتِ فقطْ ولا دورَ لها بعد ذلك في حياة المسلمين .
تاسعا : الهجرةُ وتأريخها ..!
وإشارةً أخرى إلى أمرٍ يتعلقُ بحدثِ الهجرةِ النبويةِ في قضيةٍ تُعبِّرُ بجلاءٍ عن اعتزازِ هذه الأمةِ بشخصيتها الإسلاميةِ وتُثبتُ للعالمِ بأسره استقلالَ هذه الأمةِ بمنهجها المتميزِ المُستقى من عقيدتِها وتأريخها وحضارتِها ، إنها قضيةٌ إسلامية ٌوسنةٌ عُمريةٌ أجمعَ عليها المسلمونَ في عهدِ عمرَ بنِ الخطاب t إنها التوقيتُ والتأريخُ بالهجرةِ النبويةِ المباركة ، واختيارُ الصحابةِ هذا التأريخَ على غيرهِ من الأحداثِ يُعََدُّ من فقهِهِمْ وفهمهمُ العميقِ لأهميةِ هذا الحدثِ الذي انتقلتِ الأمةُ المسلمةُ بسببه من مرحلةِ الاستضعافِ والابتلاءِ إلى مرحلةِ الاستخلافِ والتمكين ، وكم لهذه القضيةِ وربي من مغزًى عظيمٍ يَجْدُرُ بأمةِ الإسلامِ اليومَ تَذَكُّرَهُ والتَقيَُدَ به ، كيف وقد فُتِنَ بعضُ أبنائِها بتقليدِ غيرِ المسلمينَ والتشبهِ بهمْ في تأريخِهم وأعيادِهم ، فأين هي عِزةُ الإسلام ؟ وأين هي شخصيةُ المسلمين ؟ هل ذابت في خِضَمِّ مُغْرَياتِ الحياة ؟ فإلى الذين تنكروا لثوابتِهم وخدشوا بَهاءَ هويتِهم وعملوا على إلغاءِ ذاكرةِ أمتِهم ، وتهافتوا تَهَافُتاً مذموماً وانساقوا انسياقاً محموما خلف خصومِهم وذابوا وتميعوا أمامَ أعدائهم ، ننادي نداءَ المحبةِ والإشفاق : رويدَكم ؛ فنحنُ أمةٌ ذاتُ أمجادٍ وأصالةٍ وتأريخٍ وحضارةٍ ومنهجٍ متميزٍ منبثقٍ من كتابِ ربِنا وسنةِ نبينا صلى الله عليه وسلم فلا مساومةَ على شيءٍ من عقيدتنا وثوابتنا وتأريخِنا ولسنا بحاجةٍ إلى تقليدِ غيرِنا ، بل إن غيرَنا في الحقيقةِ بحاجةٍ إلى أن يستفيدَ من أصالتِنا وحضارتنا ، لكنه التقليدُ والتبعيةُ والمجاراةُ والانهزاميةُ والتشبهُ الأعمى من بعضِ المسلمينَ هداهم الله ، كيف لا ..؟ وقد حذر صلى الله عليه وسلم أمتَه من ذلك بقوله فيما أخرجَه الإمامُ أحمدُ وأهلُ السننِ " من تشبه بقوم فهو منهم " .