الفوائد الجنية من الهجرة النبوية (10)
الثاني عشر : البيتُ المسلمُ المتكامل .
لقد كانَ البيتُ المسلمُ حاضراً لأخطرِ قرارٍ في تأريخِ الدعوة ، فقد كانتْ عائشةُ وأسماءُ رضي الله عنهما تسْتمعانِ لتلكَ المداولاتِ التي دارت بين رسولِ الله صلى الله عليه وسلمَ وبين والدهِما أبيِ بكر الصديقٍ رضي الله عنه قالت " بينما نحنُ يوماً جلوسٌ في بيتٍ أبي بكرٍ في نحرِ الظهيرةِ ، قال قائلٌ لأبي بكر : هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متقنِّعاً في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكرٍ : فداءً له أبي وأمي ، والله ما جاءَ به في هذه الساعةِ إلا أمرٌ ، قالت : فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذنَ فأذِنَ له فدخل ، فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أَخْرِجْ مَن عندَك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلُكَ بأبي أنتَ يا رسول َالله ، قال : فإني قد أُذِنَ لي في الخروجِ ، فقال أبو بكرٍ : الصحبةَ بأبي أنت يا رسولَ الله ، قال رسولُ الله : نعم ، قال أبو بكرٍ : فخُذْ بأبي أنت يا رسولَ الله إحدى راحلتِي هاتين ، قال رسولُ الله ، بالثمنِ ، قالت عائشةُ : فجهزناهما أحسنَ الجهازِ وصنعنَا لهما سَفْرَةً في جرابٍ فقطَعَت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً من نِطَاقِها فربطتْ به على فَمِ الجِرابِ فبذلكَ سُميت ذاتُ النطاقين "
الله أكبر .. ما أجملَ هذا البيتَ المسلمَ بيتَ أبي بكرٍ ، أبو بكرٍ ، وابْنُه عبد الله وابْنتاه أسماءُ وعائشةُ ، بل وحتى مولاهُ عامرُ بنُ فُهيرةَ ، في وسطِ الجاهليةِ ، ومرابضِ الوثنيةِ ، في وسط هذا الخِضَّمِ الأسودِ الذي يَهْرُبُ فيه المسلمونَ بعقيدتهم ، نجد بيتا صالحا فيه مُقَوِماتُ الصلاح ، فعندما قالَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم " أَخرِج من عندك ، قال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله " أكانَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يجهلُ أنهما ابنتا أبي بكر ؟ لا وربي ، فهْو يعْرفهُما ، ولكن أراد أبو بكرٍ أن يقولَ " إنهما على منهجي ، همَا على عقيدتي ، لا خوف عليهما يا رسولَ الله " .
لقد وقفتُ أمامَ هذا البيتِ المسلمِ ، وقارنت هذا البيتَ المسلمَ ببيوتِنا في ديارِ الإسلام ، أين البيتُ الذي تتوفرُ فيه صفاتُ البيتِ المسلمِ كبيت أبي بكر ..؟
إن من أولى أولوياتِ البيتِ المسلمِ وأسما رسالةٍ يقدمُها للمجتمعِ تربيةُ الأولاد ، وتكوينُ جيلٍ صالحٍ قويٍ ، ولا قيمةَ للتربيةِ ولا أثرَ للنصيحةِ إلا بتحقيقِ القدوةِ الحسنةِ في الوالدين ؛ القدوةِ في العبادةِ والأخلاق ، القدوةِ في الأقوالِ والأعمال ، القدوةِ في المخبرِ والمظهر .
في غَيابِ البيتِ المسلمِ الهادئِ الهانئِ ينمو الانحرافُ ، وتفشو الجريمةُ ، وترتفعُ نسبةُ المخدرات ، بل ونسمعُ بارتفاعِ نسبةِ الانتحار .
إن البيتَ الذي لا يَغرِسُ الإيمانَ ولا يستقيمُ على نهجِ القرآن ولا يعيشُ في أُلفةٍ ووئام ، يُنجِبُ عناصرَ تعيشُ التمزُّقَ النفسي ، والضياعَ الفكري ، والفسادَ الأخلاقي ، هذا العقوقُ الذي نجده من بعضِ الأولادِ والعَلاقاتِ الخاسرةِ بين الشباب والتخلي عن المسؤوليةِ والإعراضِ عن الله والتمرُّدِ على القيمِ والمبادئِ الذي يعصِفُ بفريقٍ من أبناءِ أمتنا اليوم ، ذلك نتيجةٌ حتميةٌ لبيتٍ غفلَ عن التزكيةِ ، وأهملَ التربيةَ ، وفقدَ القدوةَ ، وتشتَّت شملُه .
البيتُ الذي يجعلُ شرائعَ الإسلام عِضين ، يأخذ ما يشتهي ، ويذرُ ما لا يريد ، إلى شرقٍ أو غرب ، يُنشئ نماذجَ بشريةٍ هزيلةً ونفوساً مهزوزة ، لن تفلحَ في النهوضِ بالأمةِ إلى مواقعِ عزها وسُؤدُدِها .
من سماتِ البيت المسلم أنه يرُدُ أمرَه إلى الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم عندَ كلِّ خلاف ، وفي أي أمرٍ مهما كان صغيراً ، وكلُ مَن فيه يرضى ويسلِّم بحكم الله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـلاً مُّبِيناً .
من سماتِ البيتِ المسلمِ تعاوُنُ أفراده على الطاعةِ والعبادة ، فضعْفُ إيمانِ الزوجِ تقوِّيهِ الزوجةُ ، واعوجاجُ سلوكِ الزوجةِ يقوِّمُه الزوج ، تكاملٌ وتعاضُد ، ونصيحةٌ وتناصر .
من سماتِ البيت المسلمِ الحياءُ ، وبه يُحصِّنُ البيتُ كِيانَه من سهامِ الفتكِ ووسائلِ الشر التي تدعُ الديارَ بلاقع ، لا يليقُ ببيتٍ أسِّس على التقوى أن يُهتَكَ سترُه ، ويُنقضَ حياؤه ، ويلوَّثَ هواؤه بما يخدشُ الحياءَ من أفلامٍ خليعةٍ وأغانٍ ماجنة ونبذٍ للحجابِ وتشبهٍ بأعداء الدين ، كلُ ذلك ينخِرُ كالسوسِ في كَيانِ البيتِ المسلم ، وبُؤَراً تفتحُ مغالقَ الشرِّ وتدعُ العامرَ خرابا .
من سماتِ البيتِ المسلم أن أسراره محفوظةٌ ، وخلافاتِه مستورةٌ ، لا تُفشى ولا تُستقصى " إن من شرِّ الناسِ عند الله منزلةً يوم القيامةِ الرجلُ يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ، ثم يَنْشُرُ سِرَّها "
لا يدخلُ البيتَ المسلمَ من لا يُرضَى دينُه ، فدخولُ المفسدِ فسَاد ، ووَلوجُ المشبوهِ خطرٌ على فلذات الأكباد بهؤلاء فسدتِ الأخلاقُ في البيوت ، وفشا السحرُ ، وحدثتِ السرقاتُ ، وانقلبتِ الأفراحُ أتراحا ، بل إنهم معاوِلُ هدمٍ للبيتِ السعيد ، والله المستعان ..
لقد برزَ أثرُ الهجرةِ في مجالِ تربيةِ الشبابِ والمرأةِ وميدانِ البيتِ والأسرةِ ، ِففي موقفِ عبداللهِ بنِ أبي بكر رضي الله عنهما في خدمةِ ونُصرةِ صاحبِ الهجرة عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي ، ما يُجلّيِ أثرَ الشبابِ في الدعوةِ ودورِهم في الأمةِ ونُصرةِ الدينِ والمِلة ، فأين هذا مما يُنادي به بعضُ المحسوبينَ على فِكرِِ الأمةِ وثقافتِها من تخديرِ الشباب بالشهواتِ وجعلِهم فريسةً لمهازلِ القنواتِ وشبكةِ المعلوماتِ في الوقتِ الذي يُعَدُّون فيه للاطلاعِ بأغلى المهماتِ في الحفاظِ على الدينِ والقيم ، والثباتِ على الأخلاقِ والمبادئ أمامَ المتغيراتِ المتسارعةِ ودعاوَى العولمةِ المفضوحة ، وفي موقفِ أسماءَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنها ما يُجَلّيِ دورَ المرأةِ المسلمةِ في خدمتِها لدينها ودعوتها ؛ فأين هذا من دُعاةِ المدنيةِ المأفونةِ الذين أجلبوا على المرأةِ بخيلِهم وَرَجِلِهم زاعمينَ زوراً وبُهتانا أنَّ تَمَسُّكَ المرأةِ بثوابتِها وقيمها واعتزازها بحجابها وعفافها تقييدٌ لحريتِها وفقدٌ لشخصيتها وبئسَ ما زعموا فخرجَتِ من البيتِ تبحثُ عن سعادةٍ موهومةٍ وتقدميّةٍ مزعومةٍ لتَظُنَّها في الأسواقِ والشوارعِ والملاهيِ والمصانعِ فرجعت مسلوبةَ الشرفِ مُدَنَّسةِ العرضِ مُغْتَصَبَةَ الحقوقِ عديمةَ الحياءِ موءودةَ الغيْرَة ، وتلكَ صورة من صورِ إنسانياتِ العصرِ المزعومةِ وحريتِه المأفونةِ ومدنيته المدَّعاة .. أقول :
ما أحوجنا إلى بيتٍ كبيتِ أبي بكر ، ما أحوجنا إلى أسرة كأسرة أبي بكر ، ما أحوجنا إلى إيمان كإيمان أبي بكر بل ما أحوجنا إلى آباء كأبي بكر وأبناء كأبناء أبي بكر ..